العراق وانهيار الفيدرالية

العراق وانهيار الفيدرالية
العراق وانهيار الفيدرالية

نظرا لأهمية هذة المقالة الذى ت تم نشرها في مركز ويلسون للكاتبة مارينا أوتاواي فى 16/7/2024 رأيت ترجمتها إلى اللغة العربية مهمة لمستقبل العراق وفدراليتها.

كان أحد أهم إرث الاحتلال الأميركي للعراق هو إدخال نظام الفيدرالية، وهو الأول من نوعه في المنطقة بأكملها. ولكن الفيدرالية تتآكل ببطء، وقد يكون فقدان كردستان للسيطرة على عائدات النفط مؤخراً بمثابة الضربة القاضية.

لقد تآكل إرث الاحتلال الأميركي للعراق واستثماراته في إعادة بناء البلاد. ولم يعد بوسع الولايات المتحدة أن تنافس إيران على النفوذ، وسوف تضطر قريباً إلى سحب قواتها المتبقية. كما تم تقليص الديمقراطية إلى نظام قائم على الانتخابات حيث تحاول الأحزاب الطائفية التفوق على بعضها البعض مع القليل من الاحترام للمبادئ الأساسية أو تفضيلات الناخبين. ومعظم المنافسة بين الأحزاب الشيعية، مع تضاؤل ​​التمثيل السني. أما الأكراد، الذين لا يزالون من الناحية النظرية يتمتعون بمنطقتهم شبه المستقلة، فقد شهدوا تقليص استقلال منطقتهم الفيدرالية إلى حد العدم.

 

صعود وسقوط الفيدرالية

كان إدخال النظام الفيدرالي في عام 2005 علامة بارزة. فالعراق، مثله كمثل العالم العربي بأكمله، يعاني من المركزية المفرطة وتركيز السلطة. وبدا أن الدستور الفيدرالي العراقي لعام 2005 يشير إلى طريق مختلف، لكن الفيدرالية ألغيت الآن بحكم الأمر الواقع وإن لم تكن قانونية بعد.

كانت الولايات المتحدة مترددة بشأن إدخال الفيدرالية في العراق. وبشكل عام، تخشى واشنطن أن يؤدي تبني الفيدرالية في البلدان التي تطمح الأقليات فيها إلى الحصول على دولة خاصة بها إلى تشجيع المطالبات بالاستقلال. والواقع أن هذا حدث في كردستان، حيث نظمت حكومة إقليم كردستان في سبتمبر/أيلول 2017 استفتاء على الاستقلال، حظي بموافقة 92.73% من السكان، لكن الحكومة المركزية في العراق والولايات المتحدة وتركيا ومعظم أعضاء المجتمع الدولي رفضته.

ولكن في عام 2005، عندما كانت الولايات المتحدة تصمم نظاماً سياسياً لما بعد صدام وتدير عملية كتابة الدستور، بدا أن الفيدرالية هي الحل الوحيد: فقد كانت كردستان بالفعل منطقة تتمتع بالحكم الذاتي بحكم الأمر الواقع، وذلك بفضل الحماية التي توفرها منطقة حظر الطيران التي فرضتها الولايات المتحدة بعد حرب الخليج عام 1991. ولكن بالنسبة لمعظم الأشخاص المشاركين في اتخاذ القرار، لم تكن الفيدرالية خياراً طوعياً بقدر ما كانت حلاً وسطاً لا مفر منه. ولم تكن الولايات المتحدة متحمسة، وكان السنة والشيعة في حالة من الذعر، ولم يكن سوى الأكراد هم الذين ابتهجوا حقاً.

 

النزاعات النفطية والحكم الذاتي

نظراً لأن الولايات المتحدة كانت في عجلة من أمرها لاستكمال الانتقال الرسمي إلى الحكم الذاتي في العراق بعد الاحتلال، فقد تم كتابة الدستور والموافقة عليه في وقت قصير للغاية دون محاولة بناء الإجماع. ولم يتم تناول التفاصيل الحاسمة، وتم تأجيل القضايا المثيرة للجدل إلى وقت لاحق أو تركها غامضة عمداً.

"وبدون السيطرة على عائدات الهيدروكربون، فإن استقلال كردستان لا معنى له لأن المنطقة ليس لديها أي مصدر آخر للدخل (كردستان، مثل بقية العراق، تعتمد على النفط في 90% من عائداتها)".

وعلى وجه الخصوص، لم يتم ترسيم حدود المنطقة المستقلة بالكامل، الأمر الذي ترك مصير منطقة كركوك الغنية بالنفط في طي النسيان، ولم يحدد الدستور بوضوح من الذي سيتحكم في عائدات حقول النفط والغاز في كردستان. وبدون السيطرة على عائدات الهيدروكربون، فإن استقلال كردستان لا معنى له لأن المنطقة ليس لديها مصدر آخر للدخل (فمثلها كمثل بقية العراق، تعتمد كردستان على النفط في 90% من عائداتها).

وبمجرد إقرار الدستور الفيدرالي الجديد، تدفقت شركات النفط العالمية القديمة والجديدة إلى كردستان، التي عرضت شروطاً مواتية للتنقيب والاستخراج. وأعادت حكومة إقليم كردستان استثمار العائدات لتحسين البنية الأساسية للبلاد، وخاصة لبناء خط أنابيب يربط حقول النفط الكردية بخط أنابيب تركي قائم مسبقاً ويتجه إلى ميناء جيهان. وقد أتاح هذا لكردستان تصدير النفط دون المرور عبر العراق. وبحلول منتصف عام 2015، كانت كردستان تصدر مباشرة إلى السوق العالمية.

ولكن سياسة الهيدروكربون التي انتهجتها كردستان والتي بدت ناجحة كانت تستند إلى أسس قانونية هشة. فقد كان الدستور، كما أشير، غامضاً فيما يتصل بقضية الدور المتبادل بين الحكومة المركزية والحكومات الإقليمية، كما أصدرت شركات المحاماة الدولية التي استأجرها الجانبان تفسيرات متناقضة تدعم مزاعم عملائها. وما زاد الطين بلة أن العراق فشل في سن قانون بشأن الهيدروكربونات، في حين مضت كردستان قدماً في سن قانونها الخاص. ورغم ذلك فإن الأرباح التي حققتها شركات النفط الدولية العاملة في كردستان كانت كافية لتحمل حالة عدم اليقين. وكثيراً ما كان من غير الممكن تسليم شحنات النفط الكردي من جيهان وفقاً للخطة، وكان ينتهي بها الأمر إلى بيعها بأسعار مخفضة إلى البلدان الراغبة في استلامها، بما في ذلك إسرائيل.

فشلت المفاوضات المتكررة بين بغداد وأربيل، سعياً إلى التوصل إلى حل وسط يسمح لحكومة إقليم كردستان بتصدير بعض النفط مباشرة ولكن أيضاً بيع الباقي من خلال شركة تسويق النفط العراقية (سومو)، في تسوية القضية بشكل نهائي.

 

تدخل المحكمة العليا

ثم في فبراير/شباط 2022، تدخلت المحكمة الدستورية العليا العراقية بشكل حاسم، وأعلنت عدم دستورية قانون الهيدروكربون في كردستان وإبطال جميع عقود النفط التي وقعتها أربيل.

كما فتحت الحكومة العراقية قضية في محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية، متهمة تركيا بانتهاك اتفاقية عام 1973 بالسماح بتصدير النفط من كردستان دون موافقة الحكومة العراقية. وحكمت محكمة التحكيم لصالح العراق، وفرضت غرامة باهظة على تركيا، رفضت دفعها. وتوقفت صادرات النفط من كردستان تمامًا في 25 مارس/آذار 2022، ولم تستأنف حتى وقت كتابة هذه السطور، على الرغم من المفاوضات الجارية بين العراق وتركيا.

لقد عانى كل من العراق وكردستان من هذه الأزمة. فلم يعد العراق قادرا على تصدير النفط من كردستان، والذي بلغ 434 برميلا يوميا في عام 2022. وأصبحت شركات النفط عالقة في المنتصف، مع تأخر المدفوعات وتوقعات غير مؤكدة. وأعلن العديد منهم أنهم مستعدون الآن للتوصل إلى اتفاق مع شركة تسويق النفط العراقية من أجل البدء في البيع مرة أخرى، على الرغم من المعارضة السابقة.

"يبدو الأمر وكأنه مسألة وقت فقط قبل أن تنتهي التجربة العراقية مع الفيدرالية، ومعها إرث آخر من إرث الاحتلال الأميركي".

والأمر الأكثر أهمية هو أن إقليم كردستان فقد استقلاله المالي، حيث أصبحت عائداته تقتصر على التحويلات من الحكومة المركزية التي يحق لجميع المناطق والمحافظات الحصول عليها. ولا يزال هناك فرق بين وضع إقليم كردستان ووضع المحافظات الأخرى. ففي كردستان، لا تزال الحكومة الإقليمية مسؤولة عن ميزانيتها الخاصة، بينما في أماكن أخرى، يتم تخصيص جميع الأموال من خلال الوزارات في بغداد، ولكن هامش الحكم الذاتي لحكومة إقليم كردستان قد تقلص بشدة. ويبدو الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن تنتهي التجربة العراقية مع الفيدرالية، ومعها إرث آخر من الاحتلال الأميركي.